الفرق بين التقسيط والربا

فرّق أهل العلم بين بيع التقسيط والربا -تحديداً ربا النسيئة- من خلال توضيح مفهوم كل منهما، وحكمهما، والأدلة التي استندوا إليها فيما ذهبوا إليه، والتي يمكن بيانها على النحو الآتي:


بيع التقسيط

يُعرف بيع التقسيط على أنّه: بيعٌ يعرض فيه البائع على المشتري سلعة محددة بثمن محدد، يدفعه هذا المشتري في وقت لاحق بعد إتمام العقد، وبصورة دفعات متفرقة لا مرة واحدة، على امتداد أزمان يتفق عليها البائع والمشتري، مع ملاحظة وجود فرق في ثمن السعلة عند دفعه حالاً وعند تأجيل دفعه، بحيث يكون ثمن السلعة المؤجل أكثر بزيادة محددة عن ثمن السلعة الحاضر.[١]


وأصل بيع التقسيط معروف منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ كان البائع في ذلك الزمان يقول للمشتري: أبيعك هذه السلعة بكذا -يعني الثمن- في حال اشتريتها حالاً، وأبيعها بكذا إذا اشتريتها بثمن مؤجل، وفي هذا ثبت عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّه قال: (نَهَانَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- عن بَيْعَتَيْنِ...)،[٢] وفي رواية أخرى: (نَهَى رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عَنِ صفْقَتَيْنِ في صفْقَةٍ واحدةٍ).[٣][١]


وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الصور من البيع إذا تضمّنت جهالة في الثمن؛ لأنّها أقرب للوقوع في الربا النسيئة المحرّم، فإذا انتفت هذه العلّة كان البيع جائزاً، وبهذا أفتى أكثر أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وعليه يكون بيع التقسيط صحيحاً.


وبناءً على الأحاديث السابقة وغيرها من الأدلة؛ استنتج العلماء شروط البيع بالتقسيط ليكون جائزاً، فقالوا:[١]

  • أن يختار المشتري للثمن المؤجل والزيادة عليه بكامل رضاه، وإرادته وعلمه.
  • الاتفاق على الثمن قبل التفرّق من مجلس العقد.
  • أن يكون الثمن المؤجل مع الزيادة مقابل سلعة محددة.
  • أن لا يزيد البائع على المشتري الدين أو الثمن المؤجل في حال تأخر المشتري عن دفع القسط المتفق عليه؛ لأنّه بذلك يشابه الربا المحرّم، ولكن يجوز رهن السلعة إلى أن يُتمّ المشتري دفع الثمن.[٤]


ربا النسيئة

يُقصد بربا النسيئة: تأجيل أحد العوضين أو أحدهما في تبادل الأموال الربويّة -التي يقع فيها الربا-، مع الزيادة في الدين مقابل الأجل، فمثلاً مبادلة القمح بالقمح مع الزيادة في ذلك لا يجوز، بينما مبادلته مع الذهب أو النقود جائز -مع تحقق الشروط الأخرى- لاختلاف العوضين.[٥]


والأصل أنّ هذا الربا منهي عنه في الشريعة الإسلامية سواء أكان واقعاً في البيوع -تأخير القبض عند مبادلة ربويّ بربويّ-، أو في الديون -زيادة الدين مقابل التأجيل-؛ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والْفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والْبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ، والْمِلْحُ بالمِلْحِ، مِثْلًا بمِثْلٍ، يَدًا بيَدٍ، فمَن زادَ، أوِ اسْتَزادَ، فقَدْ أرْبَى، الآخِذُ والْمُعْطِي فيه سَواءٌ)،[٦] فهذه الأصناف المذكورة في الحديث هي الأصناف أو الأموال الربويّة.[٥]


أمّا عن الحكمة من تحريم الربا فهي كثيرة يُصعب حصرها؛ إلا أنّ على المسلم التيقن بأنّ الله -تعالى- لا يُشرّع إلا ما فيه مصلحة للعباد، وما فيه نفعهم وإبعاد الضرر عنهم، ولكن يمكن التماس أهم الأمور التي يظهر فيها الحكمة من تحريم الربا، ومن ذلك:[٧]

  • حفظ المجتمع الإسلاميّ من أن يأكل بعض أفراده بعضاً.
  • حماية الاقتصاد، وتنميته وزيادة بركته.
  • المحافظة على أواصر المحبة والأخوة بين أفراد المجتمع المسلم.
  • نبذ الكسل والخمول والراحة، والإقدام على العمل والكسب.
  • توزيع المال والثروات بين أفراد المجتمع دون حكره على فئة محددة.


خلاصة الفرق بين التقسيط والربا

من خلال ما تقدم يظهر للمتأمل أنّ بيع التقسيط والربا يشتركان في تأجل الثمن، والواقع أنّهما يختلفان في العديد من الأمور الجوهريّة، نذكر منها:[٨]

  • الحكم؛ فقد أحلّ الله البيع وحرّم الربا.
  • إنّ الربا يتضمن الزيادة لذات الأجل لا للسلعة، بينما في بيع التقسيط تكون الزيادة لتأجيل ثمن السلعة.
  • إنّ الزيادة التي في الربا تكون من جنس ما أعطاه أحد المتعاملين مقابل الأجل؛ كمن يبيع صاعاً من الشعير حالاً بصاعٍ ونصف من الشعير أيضاً لكنّه مؤجل، أو إقراض ألف دينار حالاً مقابل ألف ونصف مؤجل، وقابلة للنماء كلّما تأخر المقترض بالسداد، بينما في بيع التقسيط تكون الزيادة مغايرة لجنس ما أعطاه أحد المتعاملين، فالسلعة يُقابلها دراهم.
  • إنّ الزيادة في البيع بالتقسيط تكون ثابتة حال العقد، وبعد العقد، ولو بعد مئة عام تبقى كما هي ثابتة غير قابلة للنماء.
  • إنّ البائع في بيع التقسيط يُضحي في سبيل توفير السلعة للمشتري، فيستحق الزيادة لتعطيل استلام الثمن حالاً، وعدم استعماله في مشتريات أخرى؛ وهذا أقرّته الشريعة الإسلاميّة حفظاً لمصالح الناس.


ويجدر التنبيه إلى أنّ بيع التقسيط قد يكون مستحباً إذا قصد به البائع التيسير على المشتري، أو رفع الحرج والضيق عنه، وبهذا يُثاب البائع على إحسانه ونيّته، كما يكون بيع التقسيط مباحاً إذا قُصد به المرابحة والمعاوضة،[٤] ولا ننسى أنّ هذا البيع له فوائد ومنافع جمّة على المجتمع بعكس الربا الذي يُقصد به الحكر، وأخذ المال من غير تعب أو مقابل، ومن أبرز منافع بيع التقسيط:

  • تيسير معاملات الناس فيما بينهم، وتسهيل الدفع من خلال آجال معلومة ومحددة.
  • عرض التجار لبضائعهم والترويج لها بطريقة تناسب أحوال الناس.
  • تنشيط حركة التجارة وتداول الأموال بين أفراد المجتمع.
  • الابتعاد عن الاستغلال، والغبن والخداع، وأكل أموال الناس بالباطل.
  • سيادة التراحم بين الناس، وتحقيق المحبة والتعاون. وفي كل هذا يظهر مقصد التشريع الإسلاميّ من إباحة هذا البيع وتحريم الربا.

المراجع

  1. ^ أ ب ت كمال ابن السيد سالم، صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة، صفحة 388، جزء 4. بتصرّف.
  2. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:1512، صحيح.
  3. رواه الإمام أحمد، في المسند، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:3783، قال الهيثمي والشوكاني رجاله ثقات.
  4. ^ أ ب محمد بن إبراهيم التويجري، مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة، صفحة 716. بتصرّف.
  5. ^ أ ب دبيان الدبيان، المعاملات المالية المعاصرة، صفحة 104-107، جزء 11. بتصرّف.
  6. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:1584، صحيح.
  7. عبد الكريم اللاحم، المطلع على دقائق زاد المستقنع (المعاملات المالية)، صفحة 67-68، جزء 2. بتصرّف.
  8. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، صفحة 3462، جزء 5. بتصرّف.