مراتب صلة الرحم

جعل أهل العلم لصلة الرحم عدّة مراتب، على اعتبار درجة القرابة، وعلى اعتبار -أعمّ وأشمل- وهو درجة الإحسان وطبيعة العلاقة مع هذه الرحم؛ ويمكن توضيح ذلك بالآتي:


مراتب صلة الرحم باعتبار درجة القرابة

ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنّ الأم تُقدم على غيرها في الصلة، ثم يأتي بعدها صلة الأب، ثم الأقرب، فالأقرب؛ بدلالة قوله -صلى الله عليه وسلم- لرجل جاء يسأله عمن يبرهم: (... أمَّك، ثم أمّك، ثم أمّك، ثم أباك، ثم الأقربُ فالأقربُ...).[١][٢] والسبب في تقديم الأم وتكرار ذكر صلتها ثلاثاً؛ لزيادة احتياجها، ولزيادة تعبها؛ في الحمل والوضع، والإرضاع، وفوق كل ذلك، فهي تساعد الأب في تربية الأبناء؛ فكان هذا جزاء ما تشقى وتتفرد به عن الأب.[٣]


وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ...)،[٤] فسوّى القرآن الكريم بين الوالدين في الوصاية، وخصّ الأم بذكر الأمور الثلاثة؛ وهي: الحمل، والوضع، والرضاعة.[٣] وقد ألحق أهل العلم القائلين بهذه المراتب الخالة بالأم؛ لأنّها تقرب منها في الحنو والشفقة والرحمة، والاهتداء إلى ما يصلح للأولاد، ومن هنا أخذوا بحكم أنّ الخالة مقدمة بالحضانة على العمّة.[٢]


وإذا قُدمت على العمّة في الحضانة وهي أقرب العصبات من النساء، كان الأولى تقديمها في البر والصلة، وكان الأولى بهذا تقديم أقارب الأم على أقارب الأب؛ واستدلوا على هذه الأحكام بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (... الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ الأُمِّ...)؛[٥] وقد ثبت هذا الحديث في واقعة كفالة ابنة حمزة بن عبد المطلب، التي قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بحضانتها لخالتها، مع أنّ عمتها صفيّة بنت عبد المطلب كانت موجدة حينئذ.[٢]


مراتب صلة الرحم باعتبار درجة الإحسان

استدل هذا الفريق من أهل العلم على تحديد مراتب صلة الرحم بما ثبت في عدد من الأحاديث النبويّة؛ فكانت مراتب صلة الرحم على اعتبار درجة إحسان الواصل، وطبيعة علاقته برحمه مرتبةً على النحو الآتي:[٦]


  • الواصل لمن أساء إليه

وهي أولى المراتب وأعلاها؛ استناداً لما ثبت في الصحيح، أنّ رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: (يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ -الرمل الحار-، وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ).[٧]


  • الواصل لمن قطعه دون أن يُساء إليه

وهذه المرتبة مستندة أيضاً للحديث السابق؛ على اعتبار أنّ تحمل القطيعة مع الإساءة أعلى درجة من تحمّل القطيعة دون الإساءة.


  • المكافئ

يُقصد بالمكافئ هنا: الذي يبادل رحمه بما يقدمونه له؛ فإذا زاروه زارهم، وإذا سألوا عنه سأل عنهم، وإذا أسدوا إليه معروفاً أسدى لهم معروفاً؛ وهذا المعنى يتجلّى في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها).[٨]


صلة الرحم

تعرف الصلة في اللغة بأنّها ضد الهجر؛ أمّا في الاصطلاح، فيُقصد بصلة الرحم: الإحسان إلى الأقارب من أهل النسب والأصهار، والعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم،[٩] كما تكون صلتهم بالإنفاق والزيارة، والسؤال، وغير ذلك من صور الإحسان، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنّ للصلة نوعين:[١٠]


  • الأولى: صلة الرحم العامة

وهي رحم الدين التي تشمل جميع المسلمين؛ والتي توصل بالتناصح، والتوادد والعدل، وإقامة الحقوق.


  • الثانية: الرحم الخاصة

وهي رحم القريب من النسب، والتي تزيد عن الرحم العامّة بعدد من الحقوق والواجبات؛ كالتغافل عن زلاتهم، والإنفاق عليهم، والتسامح معهم؛ ونحو ذلك، والتي يختلف استحقاقها بدرجة قربهم، وتفاوت مراتبهم.


وهذه الصلة تكون لأهل الاستقامة من الأرحام، فإن كانوا فجّاراً كانت مقاطعتهم في الله هي صلتهم، مع بذل الوسع والطاقة في نصحهم، والدعاء لهم، وتنوير بصائرهم، وحثّهم على التوبة والهداية.

المراجع

  1. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن معاوية بن حيدة القشيري، الصفحة أو الرقم:5139، سكت عنه وكل ما سكت عنه أبو داود فهو صالح وقال الألباني حسن صحيح.
  2. ^ أ ب ت محمد نصر الدين محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 54، جزء 8. بتصرّف.
  3. ^ أ ب خليل أحمد السهارنفوري، بذل المجهود في حل سنن أبي داود، صفحة 526، جزء 13. بتصرّف.
  4. سورة لقمان، آية:14
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن البراء بن عازب، الصفحة أو الرقم:2699، صحيح متفق عليه.
  6. علي بن عمر بادحدح، دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح، صفحة 17، جزء 99. بتصرّف.
  7. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2558، صحيح.
  8. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:5991، صحيح.
  9. محمد بن إبراهيم الحمد، قطيعة الرحم: المظاهر الأسباب سبل العلاج، صفحة 20. بتصرّف.
  10. الصنعاني، التحبير لإيضاح معاني التيسير، صفحة 435-436، جزء 6. بتصرّف.