مُيّز دين الإسلام باهتمامه بجوهر الأعمال التي يكون لها الأثر الخيِّر ذو المنفعة المتأصِّلة، ولعل من أبرز صور الخير التي حث عليها الإسلام هي الوقف، والذي يمتدّ في نفعه إلى عموم أفراد المجتمع، فيساهم في جعل ذلك المجتمع متَّسمًا بسمات الخير الأصيلة؛ لرسم صورةِ المجتمع المتحاب المترابط والمتضامن والمتكافل في الخير.


الوقف منارةٌ لا يختلف على نفعها أحدٌ من علماء المسلمين باختلاف مذاهبهم، وإن الأجر في الوقف له مكانةٌ خاصّة في ديننا الحنيف، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له" [١]، فالوقف من العبادات المحدودة التي ينتفع بها العبد في حياته وتستمر في نفعها له بعد مماته، وإنَّ ممّا يميّز الوقف أيضًا أنّه لا يقتصر على صورةٍ واحدةٍ، فأشكال الوقف متعددة وكثيرة، وعبادةُ الوقف تتيح للمسلم أن يتفنّن في تشكيل صورٍ عديدةٍ تصبُّ في وجوه الخير لعموم المجتمع.


مفهوم الوقف


الوقفُ لغةً

هو الحبس والمنع على الشيء، ويقال وَقَفْتُ الشيء إذا أوقَفْتُه، وقد اشتهر المصدر الوقف بمعنى اسم المفعول، فيُقال: هذا الشيء وَقْف أي مَوقوف، ثمَّ صار الوقف يُجمع على أوقاف. [٢]


الوقف شرعًا

أن يخرج الشيء من ملكيته فلا يكون ملكًا لأحد، ولا يتبع لشخص معين، ويكون التَّصدّق بمنفعة الوقف إما ابتداءً وانتهاءً، وإمَّا انتهاءً فقط؛ فالتَّصدق يكون ابتداءً وانتهاءً في حالةِ وقف العين على جهة معيَّنة من جهات البر التي لا يحتمل أن تنقطع أبدًا، كالوقف على المساجد، وهذا هو ما يعرف عند العلماء بالوقف الخيري، وفي حال كان الوقف على شيء أو أمرٍ محتمل الانقطاع سواء أكان انقطاعًا واحدًا أو أكثر، ثم بعد ذلك جعله على جهة من جهات البر التي لا تنقطع كما ذكرنا سابقًا يكون التصدُّق انتهاءً فقط، وهذا ما يطلق عليه الوقف الأهلي. [٣]


إن الوقف في الاصطلاح الشرعي من المعاني التي اختلف عليها الفقهاء، فقد عرفوها بتعريفات مختلفة، فكلٌ من الأئمة الأربعة عرَّفها بحسب منهجه، ومن المحتمل أيضًا أن تكون التعريفات قد صدرت من تلاميذهم، فليس بالضرورة أن توقف التعريفات عليهم فقط. [٤]


عند الحديث عن الوقف لا بد من الإشارة إلى أنه يجب أن يكون واضح الصيغة؛ ومن ألفاظ الوقف الصَّريحة: وقفت، حبست، سبلت، ومن ألفاظ الكناية: تصدَّقت، حرّمت، أبدّت، وقد أشار بعض العلماء الكبار إلى أن التحريم والتأبيد من الألفاظ الصريحة، أي عندما يقول الشخص: (حرّمت هذا البيت على نفسي) أي وقفته. [٤]


الوقف عند المذاهب الفقهية

اختلف فقهاء المذاهب الفقهية في تعريف الوقف فيما بينهم، وذلك بالتأكيد يعود إلى اختلاف مذهب كل واحدٍ منهم عن الآخر، وما الذي بنى عليه مذهبه، وهذا بيان توضيحي وتعريفي للوقف في كل مذهب من المذاهب الأربعة بشكلٍ مختصرٍ: [٤]


تعريف الوقف عند الحنفية

عُرِّف الوقف عند الحنفية بأنه منع المملوك من تمليكه للغير، أي منع التصرف في المملوك الذي يملكه الواقف بعد وقفه ببيع أو هبة ونحو ذلك، إذ إنه لا يصح أن يتصرف الواقف بالموقوف؛ وذلك لأنه لم يعد يملكه، فقد خرج من ملكيته وصار وقفًا لله، فلا يجوز له بيعه أو التصرف فيه بأي شكل من الأشكال.


تعريف الوقف عند المالكية

هو إعطاء منفعة العين طوال مدة وجوده مع لزوم بقائه في مُلك الواقف ولو تقديراً، ومدة الوجود تعني أن الوقف ليس محددًا بزمن، بل هو للأبد، والشيء أو العين يراد به المال أو أي شيء يصحُّ أن يقدَّر بالمال، وخصص هذا التعريف منفعة العين بالإعطاء إشارة إلى عدم جواز إعطاء العين نفسه كما في الهبة.


تعريف الوقف عند الشافعية

عرّفوه بأنَّه حبس المال الذي يتوقع أن يُنتفع منه مع بقائه، سواء أكان البقاء في عينه أو أصله، مع منع التصرّف في أصل الشيء الموقوف، وتكون منفعته في البر طلبًا للأجر والقرب من الله سبحانه وتعالى.


تعريف الوقف عند الحنابلة

عرّفوه بأنه حبس أصل العين والاستفادة من ثمرته أو منفعته.


ومن الجدير أن نشير في نهاية هذا المقال إلى حديثه صلى الله عليه وسلم: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها" [٥]، وذلك عندما سأله عمر رضي الله عنه عن أرض غنمها من الحرب لم يغنم أثمن منها، ونستشهد من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن تعريف الوقف هو: حبس الأصل وتسبيل المنفعة، ومن ذلك نعلم أن الوقف لا يكون إلا في منفعة دائمة، أي الشيء الذي من الممكن أن ننتفع به دون انقطاع؛ لأن أي شيء يُنتفع به منفعة منهية بانتهائه لا يجوز وقفه كالطعام، وإنما يصحُّ التصدق به واعتباره من باب الصدقات التي يثابُ عليها المتصدق فقط مرة واحدة، بخلاف ما يستفاد منه على الدوام ولا يذهب أصله؛ فإن الأجر عليه من الله مستمرٌ ما دام الشيء الموقوف موجودًا. [٦]


المراجع

  1. رواه شعيب الأرنؤوط، في صحيح مسلم ، عن أبوهريرة ، الصفحة أو الرقم:1631.
  2. عبدالحميد عبدالرحمن عشّوب ، كتاب الوقف، صفحة 9. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت عكرمة سعيد صبري ، الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق، صفحة 26-41. بتصرّف.
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:2772.
  5. إسلام ويب (10/9/2018)، "حديث الوقف"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 4/8/2021.