إنَّ التّواضع سمةٌ في الإنسانِ تجعل منهُ شخصًا رزينًا، وترفع قَدْره وشأنهُ، فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ، إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" [١]، فكم هو جميلٌ أن يَزِنَ الإنسانُ قدره دونِ أن يُنقصَ من شأنه ومكانته، بل أن يعطي لنفسه جوهرًا حقيقيًّا، ولا شكَّ أيضا أنّه يجب على الإنسان أن يعرف وَضعهُ ويَزِنَ عقلهُ ويقدِّر نفسهُ بقدرها الحقيقيّ دون أن تَشوبهُ شائبةُ الكبرِ والتّعالي، التي حذَّر منها الدّين الإسلاميّ، كما قال لنا الرَّسول صلى الله عليه وسلم : "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ".[٢]


من أبرز مظاهر التواضع

مظاهر التواضع عديدة وكثيرة، وحيثياتها أيضًا متعددّة، ومنها ما يأتي: [٣]


1. تواضع العبد مع ربه

فالمسلم يكون تواضعُه مع الله بالامتثال لأمرهِ، واجتناب ما نهى الله عنه، ويتواضعُ العبد لعظمةِ الله وجلاله سبحانه وتعالى، ويخضعُ لعزّتهِ وكبريائهِ.


2. تواضع المسلم في ملبسه ومشيته

فالمسلم لا يكونُ لباسهُ فيه كبرِ وتبرج، ولا يمشي بين الناس متكبرًا، بل يكون ذا مظهرٍ لائقٍ، مقتديًا بأخلاقِ الرّسول في لبسهِ ومِشيتهِ، فقد نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن هذه المظاهر، ويظهر ذلك في الحديث المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "بيْنما رجُلٌ يَجُرُّ إِزارَهُ من الخُيَلاءِ خُسِفَ بهِ ، فهو يَتجلْجَلُ في الأرضِ إلى يومِ القِيامةِ". [٤]


3. تواضع المسلم في تعامله مع زوجته

فالمسلمُ المتواضع يحبُّ زوجته، ويُظهِرُ حبَّهُ ووُدّه لها، وذلك بمساعدتها وإعانتها في أمور دينها ودنياها، ولا يكونُ تعامله معها فظًّا كما يفعل البعضُ اعتقادًا منهم أنَّ هذا انتقاصٌ من شأنهم، فقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئلت عنه أم المؤمنين عائشة قالت: "كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ". [٥]


4. تواضع المسلم في تعامله مع صغار السن

فالمسلم لا ينقص قدره عندما يضحكَ مع الأطفال، أو يلاعبهم، أو يعطيهم شأنًا كما كان يفعلُ نبيّنا صلى الله عليه وسلم.


5. تواضع المسلم مع الخدم والعمال

فالمسلمُ إذا كان عنده خادم أو عامل يعينه في شؤون بيته عليه أن يُحسنَ إليهِ بالكلام، ويُكرمه في المأكلِ والمشرب والملبس، فقد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إذا أتَى أحَدَكُمْ خادِمُهُ بطَعامِهِ، فإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ معهُ، فَليُناوِلْهُ لُقْمَةً أوْ لُقْمَتَيْنِ أوْ أُكْلَةً أوْ أُكْلَتَيْنِ، فإنَّه ولِيَ عِلاجَهُ". [٦]


مواقف يمكن للمسلم تجنب التواضع فيها

وقد شُرعَ في بعض المواقف تركُ التَّواضع؛ لمصلحةٍ شرعيةٍ أيضًا، فالتَّكبرُ على الكفارِ لخداعهم وغيظهم ونكايةً فيهم يكون مشروعًا، وكذلكَ شُرعَ التّكبرعلى من يَزيدهُ التَّواضع تماديًا في غيّهِ؛ كالمتكبّرين من أهل الدّنيا، إذ يجبُ على المسلم أن يعرفَ متى يُحمَدُ التّواضع، وأينَ يُشرعُ ضدّه، فقد أوضح العلَّامة ابن القيم رحمه الله الفرق بين التَّواضع والمهانة، وهو ما سنختم به مقالنا. [٧]


معنى التواضع

قيل في التَّواضع إنه الاستسلامُ والخضوع للحقِّ، والبعد عن الاعتراض على الحُكمِ، وذكرَ أحدُ العلماء أنَّ التَّواضع هو قبولُ الحقِّ من أي شخص كان، وسُئلَ أحدُ الصَّالحين أيضًا عن التَّواضع فقال: خفضُ الجناح للخَلقِ وتليينُ الجانبِ لهم، وقال الفُضيلُ بن عياض عندما سُئلَ عن التَّواضع: هو أن تخضعَ للحقِّ وتنصاع لهُ، وإن سَمِعتَهُ من صبيٍّ قَبِلتَهُ، وإن سمعتَه من أجهلِ النَّاس قَبِلْتهُ، وقال عبد الله الرَّازي: التَّواضع هو عدم التمييز في الخدمة. [٨]


وهذه التَّعاريف التي جاءتْ في التَّواضع فيها دعوة واضحة إلى تهذيبِ النفس وحاجاتها الفطرية، والمجاهدة في كبت كبر النَّفس؛ حتَّى لا تَقود صاحبِها إلى مهاوي الغرور والهَلكة، قال الله سبحانه وتعالى: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". [٩][٨]


الفرق بين التواضع والمهانة

الفروقات بين مصطلحي التواضع والمهانة عديدة، والعلماء قد عرَّفوا كلَّ واحدٍ منها، وهنا نذكر فرقًا واحدًا بينهما: [٧]


التَّواضع أصله ومنبعه العلم بأسماء الله سبحانه وتعالى ومعرفة صفاته التي تقود إلى إجلاله وتعظيمه، وإن المطلع على اسم الله الغفور والرحيم والودود يرى أنه حري بالاتصاف بهذه الأسماء والتحلي بتلك الصفات، وينتج عن التأثر بتلك الصفات خلق التواضع الذي يدل على الخضوع لله عز جل، وتليين الجانب لعباده، فلا يَرى المتواضع أن لهُ فضلًا على أحدٍ ولا يَرى أن له حقًّا عند أحدٍ.


أمَّا المهانة فهي في أصلها من الضعف والجهل، وهي ليست من التواضع في شيء، فالشخص الذي يتصف بالمهانة لا مبدأ عنده، بل إنه يميل حيث يجد مصلحته دون مراعاة أي عرف أو دين، ومن الضروري أن نشير إلى أن الله سبحانهُ يحبُّ التَّواضع، ويكره المهانة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تَواضَعُوا ولا يبغي بعضُكم على بعضٍ". [١٠]


المراجع

  1. رواه مسلم، في صحيح مسلم ، عن أبو هريرة ، الصفحة أو الرقم:2588.
  2. رواه مسلم ، في صحيح مسلم ، عن عبدالله بن مسعود ، الصفحة أو الرقم:91.
  3. "أنواع التواضع وأقسامه "، الإسلام سؤال وجواب ، 4/6/2003، اطّلع عليه بتاريخ 5/8/2021.
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:3485.
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها، الصفحة أو الرقم:676.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2557.
  7. ^ أ ب "التواضع بين المدح والذم "، إسلام ويب، 16/5/2012، اطّلع عليه بتاريخ 5/8/2021. بتصرّف.
  8. ^ أ ب أحمد عبدالرحيم السايح (24/3/2014)، "التواضع "، الألوكة الشرعية ، اطّلع عليه بتاريخ 5/8/2021.
  9. سورة القصص ، آية:83
  10. رواه الألباني ، في صحيح ابن ماجة ، عن أنس بن مالك ، الصفحة أو الرقم:3415.