متى يجوز قطع صلة الرحم؟

أوجب الله -تعالى- صلة الرحم وأعلى من شأنها، وحذّر من قطيعتها تحذيراً شديداً، وإساءة الأقارب ليست عذراً مبيحاً لقطيعتهم، ففي الحديث: (أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ)،[١] وفي هذا الحديث يُبارك النبي بصنيع الرجل ويقرّه على فعله ويحثّه عليه.[٢]


أمّا إذا كان يترتّب على صلة بعض الأرحام ضررٌ وفسادٌ محقَّقٌ في الدين أو الدنيا فلا تكون واجبة،[٣] ولكن الأولى نُصحهم في البداية، فإن رأى المسلم عدم انتفاعهم وزيادة فسادهم وضررهم جاز أن لا يصلهم حتّى يرجعوا إلى الصواب، وقد أحسن ابن عبد البر والقاضي عياض في بيان الأعذار التي تُبيح قطع الرحم في بعض الحالات الاستثنائية القليلة، وننقل أقوالهم فيما يأتي:

  • قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطِب له في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه أو دنياه، فرب هجر جميل خير من مخاطبة مؤذية".[٤]
  • قال عياض: "لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة، والصلة درجات، فأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب ومنها مستحب، فلو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعًا".[٥]


ولا يكون قطع بعض الرحم لمجرّد اتّهام الأقارب بفعل منكرٍ مؤذٍ بدون بيّنة، بل لا بدّ من التيقّن من ذلك، فإن كان ذلك حقاً فالواجب تقديم النصيحة لهم، وصلتهم بالقدر الذي لا يحصل معه ضررٌ في دين ودنيا الواصل، فإن لم ينتفعوا وكان في قطعهم وهجرهم مصلحةٌ شرعية معتبرة وزجرٌ عن أعمالهم المنكرة وجب ذلك إذا كان فيه طريقٌ لاستصلاحهم.[٦]


وليس للوالدّيْن أن يأمروا أبناءهم بقطع بعض الأرحام دون عذرٍ معتبرٍ أو لمجرّد الإساءة والكراهية ونحوها من الأعذار التي لا تُبيح قطع الرحم، ولا تسبّب ضرراً محقَّقاً على دين ودنيا الأبناء، وفي حال منع الأب ابنه من زيارة عمّه مثلاً أو التسليم عليه فلا تجب طاعته، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.[٧]


الحكم العام لقطع الرحم

قطع الأرحام الواجب وصلها حرامٌ بالاتّفاق، وهي من كبائر الذنوب، وقد اجتمعت العديد من النصوص الشرعية التي تبيّن عِظم ذنب قاطع الرحم وشناعة فعله وسوء عاقبته، ويدلّ على ذلك ما يأتي:[٨]

  • قول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).[٩]
  • قوله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).[١٠]
  • قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ).[١١]


حكم قطع المُقاطع أو غير المسلم من الأرحام

المُقاطع هو القريب الذي لا يصل أقاربه، ونبيّن حكم عدم صلة المقاطع وغير المسلم فيما يأتي:[١٢]

  • حكم قطع صلة المقاطع

لا يعدّ قطع القريب لصلة رحمه عذراً مبيحاً لقطعه، فقد عدّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من تمام صلة الرحم وصل المُقاطع، فقال: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها).[١٣]


  • حكم قطع صلة غير المسلم

تُوصل الرحم حتى وإن كانوا غير مسلمين، فقد قال -تعالى-: (لا يَنْهَاكُمُ اللَهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)،[١٤] وقد استأذنت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- النبيَّ الكريم بوصل أمّها مع أنّها مشركة، فأمرها النبيّ بوصلها.

المراجع

  1. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2558، صحيح.
  2. "حكم قطع صلة الرحم إن كان يترتب على وصلها ضرر"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 12/3/2023. بتصرّف.
  3. "قطع صلة الرحم مخافة الفتنة"، إسلام أون لاين، اطّلع عليه بتاريخ 12/3/2023. بتصرّف.
  4. الحسين المغربي، البدر التمام شرح بلوغ المرام، صفحة 221، جزء 10.
  5. ابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، صفحة 264، جزء 28.
  6. "حكم قطع الرحم التي يحصل الضرر بصلتها"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 12/3/2023. بتصرّف.
  7. عبد العزيز الراجحي، فتاوى منوعة، صفحة 37، جزء 1. بتصرّف.
  8. مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، صفحة 85، جزء 3. بتصرّف.
  9. سورة الرعد، آية:25
  10. سورة محمد، آية:22-23
  11. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن جبير بن مطعم، الصفحة أو الرقم:2556، صحيح.
  12. الشيخ مصطفى العدوي، دروس للشيخ مصطفى العدوي، صفحة 5-6، جزء 9. بتصرّف.
  13. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:5991، صحيح.
  14. سورة الممتحنة، آية:8