إن الباحث عن مصطلح الإحسان والمعنى الذي جاء به في الشريعة الإسلامية يجد أنه يشير إلى المرتبة العليا من الشيء، وهذا يعني تطبيق الشيء بأفضل طريقة ممكنة، ومن ذلك كانت مرتبة الإحسان أعلى مراتب الإيمان، وقد قال صلى الله عليه وسلم موضحًا ذلك: "الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك"،[١] وإنّ معنى الإحسان يتجلى لنا في هذا الحديث؛ فلا يوجد ما هو أعلى أو أحسن من أن يعبد المسلم ربه كأنه يراه، إذ إنه سيحرص عندها على تطبيق العبادة على أكمل وجه، ويمكننا قياس التطبيقات المختلفة للإحسان على هذا المعنى، ولمّا كان الإحسان معنًى مهمًّا وسلوكًا عظيمًا في حياة المسلم كان لا بد من أن نخصص هذا المقال لمناقشة الاستراتيجيات والمبادئ التي يمكننا أن نصل بها إلى درجة الإحسان.


كيف أكون محسنًا؟

إن الإحسان مبدأ إسلامي يدخل في الكثير من جوانب الحياة، لذلك فإن الكثيرين يبحثون عما يعين على الالتزام به والاعتياد عليه كسلوك ملازم، وسنعرض فيما يأتي أبرز ما يجعل من تطبيق الإحسان أمرًا ممكنًا:[٢]


1. مراقبة الله عز وجل

إن استشعار مراقبة الله عز وجل لنا هو خير ما يعين على الإحسان في كل شيء، إذ إن المسلم الذي يدرك أن الله عز وجل رقيب عليه ويذكّر نفسه بذلك، يكون حريصًا على تحري الصواب في الأمور كلها، كما أنه عادةً ما يكون أكثر إتقانًا في عباداته وعمله وأكثر إحسانًا في تعاملاته، فهو يستحضر في كل حياته قول الله عز وجل: "وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا".[٣]


2. تذكير النفس بيوم الحساب

إذ إن خير دافع لعمل الخير وخير رادع عن عمل الشر هو تذكر الحساب، إذ يدرك المسلم المتذكر للحساب أنه سيحاسب على أعماله كلها، وبالتالي فإنه يصبح أكثر تحريًا للإحسان في كل شيء، لذلك دائمًا ما يُنصح من يريد أن يصل إلى مرتبة الإحسان بتذكير نفسه بالحساب، ويمكننا الاستشهاد على ذلك بقوله تعالى: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ".[٤]


3. استحضار الأمانة والمسؤولية في العمل

يظن بعض الناس أن الإحسان مرتبط بالعبادات فقط، لكنه في الحقيقة يدخل في كل شيء وليس في العبادات فقط، وإن من الإحسان أن يكون الإنسان أمينًا في عمله، وأن ينجز المسؤوليات والمهام الموكلة إليه، ولا يوجد أفضل من استشعار الأمانة في العمل للوصول إلى الإحسان به، ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أننا عادة ما نجد أن أكثر الأشخاص إحسانًا هم أولئك الذين يتقون الله في عملهم ويدركون أنه أمانة يجب تأديتها على أكمل وجه.


4. تحري الإخلاص في الأعمال

يكاد الإخلاص يكون صمام الأمان لكل عمل؛ سواء أكان عملًا دنيويًّا أم عبادة أم نية، كما أنه بمنزلة الوقود المحرك لكل عمل، وهو أيضًا المسؤول عن النتيجة التي يخرج بها هذا العمل، فمن اكتمل إخلاصه أحسن في عمله، وعليه يجب على الباحث عن الإحسان والساعي إليه أن يحرص على إخلاص نيته لله عز وجل وتنقيتها من الرياء وأمراض القلوب من حقد وحسد، وأن يهتم بتطبيق ذلك في أموره كلها.


5. اعتماد مبدأ التعاون

إن الإحسان فيه معنى الكمال، ومما يعين على تحقيق الكمال والوصول إليه هو التعاون بين الناس؛ إذ إن كل شخص منا لديه ميزة معينة غير موجودة في غيره، لذلك فإن اجتماع تلك الميزات المختلفة يساعد في الحصول على عمل متقن كامل الأركان، ومن هنا جاءت أهمية التعاون في الوصول إلى الإحسان، ومما يمكن الاستشهاد به في الدعوة إلى التعاون قول الله عز وجل: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".[٥]


6. تجنب الغش والخداع

إن المهتم بأمر الإحسان والمنتبه إلى ما يزيده وما يعارضه، لا يجد له عدوًّا أكثر ضررًا من الخداع والغش، إذ إن هذين الأمرين لا يكونان في شيء إلا خرج منه الإحسان، كيف لا وهما معاكسان له في المعنى؛ فالإحسان هو الإتقان، أما الغش فهو التظاهر بإتقان الشيء وهو غالبًا ما يتضمن وقوع ضرر أو احتمال وقوعه، ومن الجدير بالذكر هنا أننا نحن الحريصون على الإحسان والإتقان عند تعاملنا في الحياة أو في العمل مع أشخاص يستخدمون الغش والخداع نجد أننا ننفر منهم، ونشعر بالانزعاج من سلوكهم، ونستحضر فورًا قيم الإحسان والإتقان والأمانة التي نتحرى تطبيقها.


صور الإحسان

ذكرنا في المقال في مواضع كثيرة أن الإحسان له أشكال وصور عديدة، ويمكننا تطبيقه في كل جوانب الحياة، ولإيضاح ذلك سنعرض فيما يأتي أبرز صور الإحسان:[٦][٧]


1. الإحسان في العبادات

ذكرنا في مقدمة المقال أن الإحسان في العبادة هو أعلى مراتب الإيمان؛ لأن فيه استحضارًا عاليًا لاطلاع الله عز وجل على أعمالنا ومراقبته لنا، وإن الإحسان في العبادة يقتضي تأديتها على الوجه الذي أمرنا به الله عز وجل؛ فالإحسان في الصلاة يقتضي تأديتها بكل أركانها وسننها مع استحضار الخشوع، والإحسان في الصيام يقتضي الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة مع تجنب التلفظ باللفظ البذيء أو عمل أي أمر مؤذٍ أو قبيح، وعليه فإننا نستنتج أن الإحسان في العبادات يكاد يجمع الكثير من صور الإحسان.


2. الإحسان في الأقوال

إن الإحسان في القول عليه الكثير من الأدلة والشواهد التي تعكس أهميته وفضله، ومن ذلك قوله عز وجل: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"،[٨] وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ"،[٩] وعند تأملنا لهذين الدليلين نجد أنهما ربطا القول الحسن بالعبادة والإيمان، وفي هذا إشارة إلى الأثر العظيم الخيّر الذي يتركه القول الحسن في النفوس، بعكس القبيح من القول الذي يؤثر سلبًا في الناس.


3. الإحسان في الأفعال

دعت الشريعة الإسلامية إلى إتقان الأعمال والإحسان فيها سواء أكان هذا العمل متعلقًا بالعبادة أو بالأعمال الدنيوية، ونستشهد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ"،[١٠] ومما يدخل في الإحسان بالفعل تجنب كل ما يؤذي الآخرين من قيادة السيارة بسرعة شديدة، أو الاصطفاف والوقوف في مكان يعيق المارة، أو تجاوز الدور في الأسواق، وغيرها الكثير من السلوكيات التي يكون في تجنبها منع للضرر والشر.


4. الإحسان مع الناس

إن الإحسان مع الناس له وجوه وصور عديدة، ويدخل في ذلك الإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم، والرفق واللين مع الناس بمختلف درجات القرب منهم، كما أن الإحسان مع الناس له مرتبة عليا في الإسلام ويترتب عليه أجر عظيم؛ وذلك لما له من أثر على نفوس الناس، ولما يحويه من تهذيب لنفس المسلم وتعويد لها على مكارم الأخلاق من التواضع والكرم، ويكاد الإحسان إلى الناس يكون من أكثر صور الإحسان تشعبًا؛ إذ يدخل فيه كل تعامل مع الناس مهما كانت صورته أو شكله، بغض النظر عن درجة القرابة والصلة بين الناس.


المراجع

  1. رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبو هريرة وعمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم:2762، صحيح.
  2. "الإحسان: فضله وحقيقته"، الألوكة الشرعية. بتصرّف.
  3. سورة الأحزاب، آية:52
  4. سورة الزلزلة، آية:7-8
  5. سورة المائدة، آية:2
  6. "صور الإحْسَان"، الدرر السنية. بتصرّف.
  7. "صور الإحْسَان"، طريق الإسلام. بتصرّف.
  8. سورة الإسراء، آية:53
  9. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:6138 ، صحيح.
  10. رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:1880، حسن.