جاءت الشريعة الإسلاميّة حاثَّةً للناس على العادات الحسنة وحافظت عليها، ووضعت عنهم العادات السيئة والقبيحة، فكانت العقيدة الإسلاميّة منارةً للمسلم، ويستمد من خلالها أخلاقه وصفاته، فقد بُعث النبيّ -عليه الصلاة والسلام- متمِّمًا لمكارم الأخلاق، وتحلّى بها، وكان خير مثالٍ وشاهدٍ للمسلمين كافَّةً في التحلّي بالأخلاق الفاضلة وترك الأخلاق والعادات القبيحة، ومن هذه الأخلاق: خُلق الإيثار الذي حثّت عليه الشريعة الإسلاميّة، وبيّنت الفضل العظيم له، فقال عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)،[١] فما هو الإيثار، وما هي درجاته، وفضله؟


شرح عن الإيثار

تعريف الإيثار

يُعرّف الإيثار في اللغة بأنّه التقديم والاختصاص، وهو مشتقٌّ من الفعل أثر، أمّا معنى الإيثار اصطلاحًا؛ فهو أن يقدم المرء غيره على نفسه لما فيه منفعة له، أو دفع أذى عنه، وقالوا إنّ الإيثار إحدى الفضائل التي يتحلّى بها الإنسان فيتنازل عن حاجةٍ له تخصّه إلى الذي يستحقّها.[٢]


الفرق بين الإيثار والسخاء والجود

بيّن ابن القيم في حديثه عن منزلة الإيثار، أنّ الإيثار أعلى منزلةٍ يتحلّى بها الإنسان من منازل البذل والعطاء؛ فقال إنّ السخاء هو أن يفضّل الإنسان غيره بالعطاء دون أن ينقص من حاجته شيءٌ، أمّا الجود؛ فهو أن يفضّل الغير بعطاءٍ أكبر ممّا تركه لنفسه أو بقدرٍ مساوٍ لها، أمّا الإيثار؛ فهو أن يفضّل الإنسان غيره في العطاء في شيء هو بحاجةٍ له، ولكنّه فضّل حاجة الغير على حاجته وقدّمه على نفسه.[٢]


فوائد الإيثار

للإيثار فوائد عديدةٌ تعود على فاعله بالخيرات، ومنها:[٣]

  1. الإيثار دليلٌ على كمال إيمان المرء وحسن إسلامه.
  2. الإيثار سبيلٌ لمحبّة الله عزّ وجلّ ونيل رضاه.
  3. شيوع المحبّة والأُلفة في المجتمع.
  4. الإيثار على رُقي النفس وجودها.
  5. الإيثار أحد المظاهر على حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ.
  6. الإيثار سبيلٌ لحسن الخاتمة.
  7. الإيثار يجلب البركة والخير.
  8. الإيثار علامةٌ من علامات الرحمة التي تعتق صاحبها من النار.
  9. الإيثار سبيلٌ للفلاح ووقاية من الشحّ.
  10. الإيثار دليلٌ على سمو الهمّة وعلوها.


شروط صحّة الإيثار

للإيثار شروط يجب توفرها، وهي:[٤]

  1. ألّا يكون الإيثار في طاعةٍ واجبةٍ، كأن يترك المرء فريضةً ليؤثر بها غيره؛ فهذا محرَّمٌ باتّفاق جميع العلماء.
  2. ألّا يكون الإيثار في القُربات والنوافل التي تُقرّب لله عز وجل، مثل الأذان للصلاة نظرًا لقوله تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)،[٥] إلّا أنّ بعض أهل العلم قد ذهب إلى جواز الإيثار في الطاعات غير الواجبة، واستدلّوا بعددٍ من الأدلة على جواز ذلك من حياة الصحابة رضي الله عنهم، ومثاله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين كان يؤثر أبا بكر -رضي الله عنه- في كثيرٍ من الطاعات القوليّة والفعليّة.
  3. أن يكون الإيثار لمن يستحقّ، فلا تؤثر طاعةٌ تقرّبك لله -عزّ وجلّ- لشخصٍ عاصٍ، أو أن تؤثر مالك لشخصٍ ليس بحاجته.


مراتب الإيثار

للإيثار مراتب ودرجات ذكرها العلماء، وآتيًا بيانها.[٦]


إيثار الخَلق على النفس

وهو أن يُغلِّب المرء مصلحة الغير على مصلحة نفسه، بما لا يفسد عليه شيئًا في دينه؛ بمعنى أن يقدِّمهم على نفسه في الطعام والشراب واللباس وأمور الدنيا، ويخصّص من وقته لقضاء حاجاتهم، والسعي لمساعدتهم، شريطة ألّا يسبّب ذلك له ضررًا في دينه، أو على حساب وقته في العبادة المفروضة له مع الله عزّ وجلّ، فإن آثر المرء غيره على حساب دينه أو طاعته؛ فكأنّما آثر الشيطان على نفسه.[٦]


إيثار رضا الله على رضا الناس

وهي ثاني درجات الإيثار؛ بأن يقدم المرء رضا الله -عزّ وجلّ على رضا الناس كما صورته الأبيات الآتية:[٦]

فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيَرةٌوَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ


وعلى ما في هذا الأمر من صعوبةٍ وابتلاءٍ، إلّا أنّ على الإنسان استحضار وتذكّر أنّ هذه درجة الأنبياء والمرسلين من قبله، وخير مثالٍ على ذلك: النبيّ عليه الصلاة والسلام؛ حينما تحمّل الأذى من قومه وسخطهم عليه، دون أن يردّه ذلك عن ابتغاء رضا الله -عزّ وجلّ- والتزام أمره في نشر الدعوة الإسلاميّة للناس؛ فبلّغ -عليه الصلاة والسلام- الرسالة، وبلغ الدرجات العلا في الإيثار دون غيره من الخلق.[٦]


نسب الإيثار لله تعالى لا للنفس

وهي ثالث درجات الإيثار بأن ينسب المرء إيثاره وصفاته الحسنة لله عزّ وجلّ، وتوجيه النية الخالصة له في جميع الأعمال التي يقوم بها، كما جاء في قوله تعالى: (قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّـهِ رَبِّ العالَمينَ).[٧][٦]


الأسباب المعينة على الإيثار

ثمّة أسبابٌ عديدةٌ تعين المسلم على التحلّي بخلق الإيثار والتمسّك به، ومن هذه الأسباب ما يلي:[٦]

  1. تعظيم الحقوق؛ لأنّ من يُعظّم حقوق الغير في نفسه، يُعظم أيضًا واجب أدائها للغير، ويشعر بعِظم الحفاظ على هذه الحقوق ووجوب رعايتها حق الرعاية، فيبلغ لديه إيثارها على نفسه لأدائها، حرصًا منه عليها.
  2. مقت الشحّ؛ أي البخل في أداء الحقوق، والحرص على ما ليس ملكًا له، فمن كره هذه الصفة، أحبّ الإيثار في نفسه وتمسّك به.
  3. حبّ التحلّي بمكارم الأخلاق، والاقتداء بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام- والصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

4- معرفة الأجر العظيم للإيثار؛ فالله -عزّ وجلّ- قد كتب عظيم الأجر والثواب لمن حسن خلقه مع الناس.


أمثلة على الإيثار في الإسلام

ضرب لنا النبيّ -عليه الصلاة والسلام- والصحابة -رضي الله عنهم- من بعده أجمل المشاهد في الإيثار، ومن هذه الأمثلة ما يلي.[٨]


ضيف رسول الله

ورد في السيرة النبويّة أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- جاءه ضيفٌ، فلم يجد في بيته إلّا الماء، فسأل الصحابة عن أحدٍ له القدرة على استضافة ضيفه؛ فقام رجلٌ من الأنصار وأخذه إلى بيته فلم يجد إلّا القليل من الطعام لصغاره، فطلب من امرأته أن تنيّم صغارها، وتجهز الطعام، وتُضعف السراج، فلمّا وضعت الطعام، أخفتت ضوء السراج، ومثّلت هي وزوجها للضيف أنّهما يأكلان معه؛ حرصًا منهما على أن يكفي الضيف هذا الطعام القليل؛ فآثروا الضيف على أنفسهم وأولادهم.[٨]


المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين

لمّا هاجر المهاجرون إلى المدينة برفقة النبيّ عليه الصلاة والسلام، كانوا لا يملكون من المتاع أو المال شيئًا، وكان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قد آخى بين المهاجرين والأنصار؛ فاقتسم الأنصار كلّ ما ملكوا بينهم وبين المهاجرين، فمنهم من اقتسم ماله، ومنهم من اقتسم بيته وتجارته؛ دلالةً على عمق الإيثار في أنفسهم، وقوّة الأخوة، والتماسك المجتمعيّ بينهم.[٨]

المراجع

  1. سورة الحشر، آية:9
  2. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية الدرر السنية، صفحة 97-98، جزء 1. بتصرّف.
  3. مجموعة من المؤلفين، كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، صفحة 640، جزء 3. بتصرّف.
  4. عائض القرني، دروس الشيخ عائض القرني، صفحة 42، جزء 213. بتصرّف.
  5. سورة المطففين ، آية:26
  6. ^ أ ب ت ث ج ح "الإيثار"، الألوكة الشرعية. بتصرّف.
  7. سورة الأنعام ، آية:162
  8. ^ أ ب ت "الإيثار الفضيلة الغائبة"، الألوكة الشرعية . بتصرّف.